فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: البقاء والدوام، يقال تبارك الله، لثبوته لم يزل، والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر، فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه أحدها: أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها.
قال صلى الله عليه وسلم: «فضل المسجد الحرام على مسجدي، كفضل مسجدي على سائر المساجد» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه» فهذا في الصلاة، وأما الحج، فقال عليه الصلاة والسلام: «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وفي حديث آخر: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة.
وثانيها: قال القفال رحمه الله تعالى: ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَئ} [القصص: 57] فيكون كقوله: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
وثالثها: أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسيّة فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركًا.
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضا كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود، وأيضا الأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم، وظهر لثان وعصر لثالث، ومغرب لرابع وعشاء لخامس، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلًا من هذه الجهة، وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفًا من السنين دوام أيضا فثبت كونه مباركًا من الوجهين. اهـ.

.قال الألوسي:

{مُبَارَكًا} أي كثير الخير لما أنه يضاعف فيه ثواب العبادة قاله ابن عباس، وقيل: لأنه يغفر فيه الذنوب لمن حجه وطاف به واعتكف عنده. وقال القفال: يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله تعالى: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَئ} [القصص: 57]، وقيل: بركته دوام العبادة فيه ولزومها، وقد جاءت البركة بمعنيين: النمو وهو الشائع، والثبوت ومنه البركة لثبوت الماء فيها والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه وتبارك الله سبحانه بمعنى ثبت ولم يزل، ووجه الكرماني كونه مباركًا بأن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ولا شك أن فيهم أشخاصًا أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ومن كان في المسجد الحرام يتصل أنوار تلك الأرواح الصافية المقدسة بنور روحه فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه وهذا غاية البركة ثم إن الأرض كرية وكل آن يفرض فهو صبح لقوم ظهر لثان عصر لثالث وهلم جرًا، فليست الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها لأداء الفرائض فهو دائمًا كذلك والمنصوب حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة. وجوز أبو البقاء جعله حالًا من الضمير في وضع. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {هُدًى للعالمين}:

.قال الفخر:

المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم، وقيل: {هدىً للعالمين} أي دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوّة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولًا على وجود الصانع، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء، وقيل: {هدىً للعالمين} إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} هذه الجملة في موضع خفض؛ صفة لـ {بَيْتٍ}.
وقرأ العامة {وُضِعَ} مبنيًّا للمفعول. وعكرمة وابن السميفع {وضَعَ} مبنيًّا للفاعل.
وفي فاعله قولان:
أحدهما:- وهو الأظهر- أنه ضمير إبراهيم؛ لتقدُّم ذِكْرِه؛ ولأنه مشهور بعمارته.
والثاني: أنه ضمير الباري تعالى، و{لِلنَّاسٍ} متعلق بالفعل قبله، واللام فيه للعلة.
و{للذي بِبَكَّة} خبر إنَّ وأخبر- هنا- بالمعرفة- وهو الموصول- عن النكرة- وهو {أول بَيْتٍ}- لتخصيص النكرة بشيئين: الإضافة، والوصف بالجملة بعده، وهو جائز في باب إن، ومن عبارة سيبويه: إن قريبًا منك زيدٌ، لما تخصص قريبًا بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه، وزاده حُسْنًا- هنا- كونه اسمًا لـ {إنَّ}، وقد جاءت النكرة اسمًا لـ {إنَّ}- وإن لم يكن تخصيص- كقوله: [الطويل]
وَإنَّ حَرَامًا أن أسُبَّ مُجَاشِعًا ** بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ

وببكة صلة، والباء فيه ظرفية، أي: في مكة.
وبكة فيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها مرادفة لمكة فأبدلت ميمها باءً، قالوا: والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع، قالوا: هذا على ضربة لازم، ولازب، وهذا أمر راتب، وراتم، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها، وأغبطت الحمى، وأغمطت.
وقيل: إنها اسم لبطن مكة، ومكة اسم لكل البلد.
وقيل: إنها اسم لمكان البيت.
وقيل: إنها اسم للمسجد نفسه، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو: الازدحام إنما يحصل عند الطواف، يقال: تباكَّ الناسُ- أي: ازْدَحموا، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفًا لنفسه، كذا قال بعضهم، وهو فاسد، لأن البيت في المسجد حقيقةً.
وقال الأكثرون: بكة: اسم للمسجد والمطاف، ومكة: اسم البلد، لقوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} فدل على أن البيت مظروف في بكة، فلو كان بكة اسمًا للبيت لبطل كون بكةَ ظرفًا له.
وسميت بكة؛ لازدحام الناس، قاله مجاهد وقتادة، وهو قول محمد بن علي الباقر.
وقال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي، فمرت امرأة بين يديه، فذهبت أدْفَعها، فقال: دعها، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضًا، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي، ولا بأس بذلك هنا.
وقيل: لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة- أي: تدقها.
قال قطرب: تقول العرب: بَكَكْتهُ، أبُكُّهُ، بَكًّا، إذا وضعت منه.
وسميت مكة- من قولهم: مَكَكْتُ المخ من العظم، إذا تستقصيته ولم تترك فيه شيئًا.
ومنه: مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه- إذا لم يترك فيه لبنًا، ورُويَ أنه قال: «لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ».
وقيل: لأنها تَمُكُّ الذنوبَ، أي: تُزيلها كلَّها.
قال ابن الأنباري: وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها، وقلة خِصْبها، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم، إذا لم تترك فيه شيئًا.
وقيل: لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ، أي: استقصاه بالهلاك.
وقيل: سُمِّيت بذلك؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض، كما يقال: امتكّ الفصيلُ- إذا استقصى ما في الضَّرْع.
وقال الخليل: لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم.
وقيل: لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة، فالأرض كلها تمك من ماء مكة، والمكوك: كأس يشرب به، ويُكال به- كالصُّوَاع.
قال القفال: لها أسماء كثيرة، مكة، وبكة، وأمّ رُحْم،- بضم الراء وإسكان الحاء- قال مجاهد: لأن الناس يتراحمون فيها، ويتوادَعُون- والباسَّة؛ قال الماوَرْدِي: لأنها تبس من الْحَد فيها، أي: تُحَطِّمه وتُهْلكه، قال تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} [الواقعة: 5].
ويروى: الناسَّة- بالنون- قال صاحبُ المطالع: ويقال: الناسَّة- بالنون-. قال الماوَرْدِيُّ: لأنها تنس من ألحد فيها- أي: تطرده وتَنْفِيه.
ونقل الجوهري- عن الأصمعي-: النَّسّ: اليبس، يُقال: جاءنا بخُبْزَة ناسَّة، ومنه قيل لمكةَ: الناسَّة؛ لقلة مائها.
والرأس، والعرش، والقادس، والمقدَّسة- من التقديس- وصَلاَحِ- بفتح الصاد وكسر الحاء- مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ، والبلد، والحاطمة؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها، وأم القرى؛ لأنها أصل كل بلدة، ومنها دحيت الأرض، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض.
قوله: {مُبَارَكًا وَهُدًى} حالان، إما من الضمير في {وُضِعَ} كذا أعربه أبو البقاء وغيره، وفيه نظر؛ من حيث أنه يلزم الفصل بين الال بأجنبيّ- وهو خبر إنَّ- وذلك غير جائز؛ لأن الخبر معمول لـ {إنَّ} فإن أضمرت عاملًا بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال، وكان تقديره: أول بيت وُضِعَ للناس للذي ببكة وُضِعَ مباركًا، والذي حمل على ذلك ما يُعْطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضِعَ أولًا بقيد هذه الحال.
وإما أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في {بِبَكَّةَ} أي استقر ببكة في حال بركته، وهو وجه ظاهر الجواز. والظاهر أن قوله: {وَهُدًى} معطوف على {مُبَارَكًا} والمعطوف على الحال حال.
وجوز بعضهم أن يكون مرفوعًا، على أنه خبر مبتدأ محذوف- أي: وهو هدى- ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار.
والبركة: الزيادة، يقال: بارك الله لك، أي: زادك خيرًا، وهو مُتَعَدٍّ، ويدل عليه قوله تعالى: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] وتبارك لا يتَصَرف، ولا يُستعمل إلا مُسْندًا لله تعالى، ومعناه- في حقه تعالى-: تزايد خيرُه وإحسانه.
وقيل: البركة ثبوت الخير، مأخوذ من مَبْرَك البعير.
وإما من الضمير المستكن في الجار وهو {ببكة} لوقوعه صلة، والعامل فيها الجار وبما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك. و{للعالمين} كقوله: {للمتقين} أول البقرة. اهـ. بتصرف يسير.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فِيهِ ءايات بينات}:

.قال الفخر:

فيه قولان:
الأول: أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي: أمن الخائف، وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور.
وقوله: {مَّقَامِ إبراهيم} لا تعلق له بقوله: {فِيهِ ءايات بينات} فكأنه تعالى قال: {فِيهِ ءايات بينات} ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم.
القول الثاني: أن تفسير الآيات مذكور، وهو قوله: {مَّقَامِ إبراهيم} أي: هي مقام إبراهيم. اهـ.

.قال ابن عطية:

الضمير في قوله: {فيه} عائد على البيت، وساغ ذلك مع كون الآيات خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه. اهـ.
وقال ابن عطية:
وقرأ جمهور الناس: {آيات بينات} بالجمع، وقرأ أبي بن كعب وعمر وابن عباس: {آية بينة} على الإفراد، قال الطبري: يريد علامة واحدة المقام وحده، وحكي ذلك عن مجاهد.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى، واختلف عبارة المفسرين عن الآيات البينات فقال ابن عباس: من الآيات المقام، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا يدل على أن قراءته {آية} بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآيات البينات مقام إبراهيم، وإن من دخله كان آمنًا، وقال مجاهد: المقام الآية، وقوله: {ومن دخله كان آمنًا} كلام آخر.
قال القاضي أبو محمد: فرفع {مقام} على قول الحسن ومجاهد على البدل من {آيات}، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه: هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره: منهن {مقام إبراهيم}.
قال القاضي: والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالًا مما في حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر، ومن آياته الحجر الأسود، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم نم تعظيمه قبل الإسلام، ومن آياته حجر المقام، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليه السلام، وقت رفعه القواعد من البيت، لما طال له البناء فكلما علا الجدار، ارتفع الحجر به في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار، ثم إن الله تعالى، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنها في طين، فذلك الأثر العظيم باقي في الحجر إلى اليوم، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار، وقال أبو طالب: [الطويل]
ومَوْطِئ إبراهيمَ في الصَّخرِ رطْبَةٌ ** على قَدَمِيهِ حافيًا غيرَ ناعِلِ

فما حفظ أن أحدًا من الناس نازع في هذا القول، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز جبريل عليه السلام الأرض بعقبه، وفي حفر عبد المطلب لها آخرًا بعد دثورها بتلك الرؤيا المشهورة، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره، إلى منافرة قريش ومخاصمتها في أمر زمزم، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعبًا، ومن آيات البيت نفع ماء زمزم لما شرب له، وأنه يعظم ماؤها في الموسم، ويكثر كثرة خارقة للعادة في الآبار، ومن آياته، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه، وسلامة الشجر، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله، اجعل هذا بلدًا آمنًا، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه، ولا زاجر، آية عظمى تقوم بها الحجة، وهي التي فسرت بقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنًا} ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع، والأرزاق من كل قطر تجيء إليه عن قرب وعن بعد، ومن آياته، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه الله، قال في النوادر، وغيرها: سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم.
قال القاضي أبو محمد: هذا والله أعلم، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون أصون له، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر. مما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم، ومما يلي العرق نحو من ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال، إلى موضع يقال له أضاة، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتى الحديبية، قال مالك في العتبية: والحديبية في الحرم، ومن آياته فيما ذكر مكي وغيره، أن الطير لا تعلوه، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به، فهو يستشفي بالبيت، وهذا كله عندي ضعيف، والطير تعاين تعلوه، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره، وتلك كانت من آياته ومن آياته فيما ذكر الناس قديمًا وحديثًا، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد، أخصبت آفاق الأرض، وإن لم يصب جانبًا منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام. اهـ.